أبو عبدالله
06-03-2010, 03:52 AM
القشيري العاشق
مصطفى شيخ مصطفى
سأكتب اليوم مُعَرِّفًا بشاعرٍ حرَّكه الهوى فاستجاب، شاعرٍ من شعراء الدولة الأموية، شاعرٍ إسلاميٍّ بدويٍّ مقلّ، كان ناسكًا عابدًا شاعرًا مجيدًا شريفًا، عاش في مضارب قبيلته في هضبة نجد عزيزًا ينتهي نَسَبُه إلى قشير، وإليه ينسب ثُمَّ إلى مضر، إنَّه الشاعر الصمة بن عبدالله بن الحارث بن قرة بن هبيرة بن... بن... بن... حتَّى ينتهي نسبه إلى مضر، وقرة بن هبيرة جدُّ والده وفد على النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فأدنه منه وقَرَّبه، وكساه واستعمله على صدقات قومه.
نشأ وترعرع في رُبُوع عشيرته، تميَّز بالشعر، فكان شاعرَها، وبالعبادة وبالشَّرف والمنزلة العالية فيها، كانت له ابنةُ عمٍّ تُدعى ريَّا العامرية، أحَبَّها وأحبته، وعشقها وعشقته، خطبها من أبيها، ومَنْ أبوها؟ إنَّه عمُّه، اشتطَّ وبالغ عمه في مهرها: "أريد مائة من الإبل مهرها".
عاد الفتى المولع المتيَّم إلى أبيه، وهو يظنُّ أنَّه سيعينه، فسأله لكنَّ أباه عبدالله أبَى وامتنع، ضاقت الأرضُ على الصمَّة، فتوجَّه إلى العشيرة يسألُها نصرتَها ومعونتها، وعلى العكس من أبيه، لبَّت العشيرة طلبَه، وجمعت له مائةً من الإبل، عقلها وساقها إلى عمِّه، وقد تنفس الصُّعَداء، يريد مائة من الإبل وهذه مائة، ساق الإبلَ إلى بيت عمِّه، فلم يَظْهَرْ بيتُ عمِّه؛ لكثرتِها، خرج العمُّ من خبائه، فقال الصمَّة: هذا المهر الذي طلبت.
"لا أقبلها منك".
"ولِمَ يا عمَّاه؟".
"أريدها من نوق أبيك، عُدْ إلى أبيك وأبدلها بنوقٍ من نوقه".
عاد الفتى إلى أبيه وهو يسوق الإبل حتَّى وصل إلى أبيه، خرج إليه أبوه، والإبل قد تحلقن حوله وانتشرن، ماذا تريد؟ أريد أن تبدلها لي بنوقٍ من نوقك، رَفَض أبوه طلبه، فلَمَّا رأى ذلك عَمَدَ إلى الإبل، فقطع عِقَالَها، وأرسلها فعاد كلُّ بعير إلى ألاَّفه في العشيرة، فالعشيرة منازلها متقاربة.
تذكر بعض كتب الأدب روايةً أخرى مُشابهة لهذه الرِّواية، بيد أنَّ عدد الإبل نقص بعيرًا، فرفض عمُّه ذلك، فعَمَدَ الصمة إلى الإبل، فقطع عقالها وأرسلها، وعاد كلُّ بعير إلى صاحبه.
جهَّز الصمَّة بعيره للسفر، وتوشَّح سيفه، وملأ قربته ماءً، ثمَّ مضى راحلاً، رأته ابنة عمه وهو يسافر، فقالت: تالله، ما رأيت كاليومِ فَتًى باعته عشيرته بأبعرة، مضى حتَّى لحق بالشام، فأقام بها وطال مقامُه، واشتاق إلى ريَّا وندم وليس ينفعُ مَنْدَم، فقال قصيدة ولا كالقصائد، أختار بعضًا من أبياتها:
"الحماسة المغربية"، (1/95).
حَنَنْتَ إِلَى رَيَّا وَنَفْسُكَ بَاعَـدَتْ ........ مَزَارَكَ مِنْ رَيَّا وَشَعْبَاكُمَا مَعَـا
فَمَا حَسَنٌ أَنْ تَأْتِيَ الْأَمْرَ طَائِعًـا ........ وَتَجْزَعَ أنْ دَاعِي الصَّبَابَةِ أَسْمَعَا
قِفَا وَدِّعَا نَجْدًا وَمَنْ حَلَّ بِالْحِمَى ........ وَقَلَّ لِنَجْـدٍ عِنْدَنَـا أَنْ يُوَدَّعَـا
بَكَتْ عَيْنِيَ اليُسْرَى فَلَمَّا زَجَرْتُهَا ........ عَنِ الْجَهْلِ بَعْدَ الْحِلْمِ أَسْبَلَتَا مَعَا
وَلَمَّا رَأَيْتُ البِشْرَ أَعْرَضَ دُونَنَـا ........ وَجَالَتْ بَنَاتُ الشَّوْقِ يَحْنِنَّ نُزَّعَا
تَلَفَّتُّ نَحْوَ الْحَيِّ حَتَّى وَجَدْتُنِي ........ وَجِعْتُ مِنَ الْإِصْغَاءِ لِيتًا وَأَخْدَعَا
وَأَذْكُرُ أَيَّامَ الْحِمَى ثُـمَّ أَنْثَنِـي ........ عَلَى كَبِدِي مِنْ خَشْيَةٍ أَنْ تَصَدَّعَا
فَلَيْسَتْ عَشِيَّاتُ الْحِمَى بِرَوَاجِعٍ ........ إِلَيْكَ وَلَكِنْ خَلِّ عَيْنَيْكَ تَدْمَعَـا
وهي قصيدة تعدُّ من أجملِ قصائد العرب في الغَزَل، وقد وصفها بعضهم - وهو محمد بن سليمان الأزدعي - بقوله: لو حلف حالفٌ أنَّ أحسنَ أبياتٍ قيلت في الغَزَل في الجاهلية والإسلام هي قصيدة الصمة هذه، لما حنث.
بَقِيَ أن نذكر أنَّ شاعرنا مات بطبرستان، وقد كان خرج في غزو الدَّيلم، وهناك ريَّا أخرى ذكرها بخير زوجُها، وكان شاعرًا مجيدًا استوقفتني له قصيدتان جميلتان وخلَّد ذكرَه وذكرَها، والقصيدة الثانية نصائحُ لابنه، وسأذكر قصة القصيدتين تباعًا.
مصطفى شيخ مصطفى
سأكتب اليوم مُعَرِّفًا بشاعرٍ حرَّكه الهوى فاستجاب، شاعرٍ من شعراء الدولة الأموية، شاعرٍ إسلاميٍّ بدويٍّ مقلّ، كان ناسكًا عابدًا شاعرًا مجيدًا شريفًا، عاش في مضارب قبيلته في هضبة نجد عزيزًا ينتهي نَسَبُه إلى قشير، وإليه ينسب ثُمَّ إلى مضر، إنَّه الشاعر الصمة بن عبدالله بن الحارث بن قرة بن هبيرة بن... بن... بن... حتَّى ينتهي نسبه إلى مضر، وقرة بن هبيرة جدُّ والده وفد على النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فأدنه منه وقَرَّبه، وكساه واستعمله على صدقات قومه.
نشأ وترعرع في رُبُوع عشيرته، تميَّز بالشعر، فكان شاعرَها، وبالعبادة وبالشَّرف والمنزلة العالية فيها، كانت له ابنةُ عمٍّ تُدعى ريَّا العامرية، أحَبَّها وأحبته، وعشقها وعشقته، خطبها من أبيها، ومَنْ أبوها؟ إنَّه عمُّه، اشتطَّ وبالغ عمه في مهرها: "أريد مائة من الإبل مهرها".
عاد الفتى المولع المتيَّم إلى أبيه، وهو يظنُّ أنَّه سيعينه، فسأله لكنَّ أباه عبدالله أبَى وامتنع، ضاقت الأرضُ على الصمَّة، فتوجَّه إلى العشيرة يسألُها نصرتَها ومعونتها، وعلى العكس من أبيه، لبَّت العشيرة طلبَه، وجمعت له مائةً من الإبل، عقلها وساقها إلى عمِّه، وقد تنفس الصُّعَداء، يريد مائة من الإبل وهذه مائة، ساق الإبلَ إلى بيت عمِّه، فلم يَظْهَرْ بيتُ عمِّه؛ لكثرتِها، خرج العمُّ من خبائه، فقال الصمَّة: هذا المهر الذي طلبت.
"لا أقبلها منك".
"ولِمَ يا عمَّاه؟".
"أريدها من نوق أبيك، عُدْ إلى أبيك وأبدلها بنوقٍ من نوقه".
عاد الفتى إلى أبيه وهو يسوق الإبل حتَّى وصل إلى أبيه، خرج إليه أبوه، والإبل قد تحلقن حوله وانتشرن، ماذا تريد؟ أريد أن تبدلها لي بنوقٍ من نوقك، رَفَض أبوه طلبه، فلَمَّا رأى ذلك عَمَدَ إلى الإبل، فقطع عِقَالَها، وأرسلها فعاد كلُّ بعير إلى ألاَّفه في العشيرة، فالعشيرة منازلها متقاربة.
تذكر بعض كتب الأدب روايةً أخرى مُشابهة لهذه الرِّواية، بيد أنَّ عدد الإبل نقص بعيرًا، فرفض عمُّه ذلك، فعَمَدَ الصمة إلى الإبل، فقطع عقالها وأرسلها، وعاد كلُّ بعير إلى صاحبه.
جهَّز الصمَّة بعيره للسفر، وتوشَّح سيفه، وملأ قربته ماءً، ثمَّ مضى راحلاً، رأته ابنة عمه وهو يسافر، فقالت: تالله، ما رأيت كاليومِ فَتًى باعته عشيرته بأبعرة، مضى حتَّى لحق بالشام، فأقام بها وطال مقامُه، واشتاق إلى ريَّا وندم وليس ينفعُ مَنْدَم، فقال قصيدة ولا كالقصائد، أختار بعضًا من أبياتها:
"الحماسة المغربية"، (1/95).
حَنَنْتَ إِلَى رَيَّا وَنَفْسُكَ بَاعَـدَتْ ........ مَزَارَكَ مِنْ رَيَّا وَشَعْبَاكُمَا مَعَـا
فَمَا حَسَنٌ أَنْ تَأْتِيَ الْأَمْرَ طَائِعًـا ........ وَتَجْزَعَ أنْ دَاعِي الصَّبَابَةِ أَسْمَعَا
قِفَا وَدِّعَا نَجْدًا وَمَنْ حَلَّ بِالْحِمَى ........ وَقَلَّ لِنَجْـدٍ عِنْدَنَـا أَنْ يُوَدَّعَـا
بَكَتْ عَيْنِيَ اليُسْرَى فَلَمَّا زَجَرْتُهَا ........ عَنِ الْجَهْلِ بَعْدَ الْحِلْمِ أَسْبَلَتَا مَعَا
وَلَمَّا رَأَيْتُ البِشْرَ أَعْرَضَ دُونَنَـا ........ وَجَالَتْ بَنَاتُ الشَّوْقِ يَحْنِنَّ نُزَّعَا
تَلَفَّتُّ نَحْوَ الْحَيِّ حَتَّى وَجَدْتُنِي ........ وَجِعْتُ مِنَ الْإِصْغَاءِ لِيتًا وَأَخْدَعَا
وَأَذْكُرُ أَيَّامَ الْحِمَى ثُـمَّ أَنْثَنِـي ........ عَلَى كَبِدِي مِنْ خَشْيَةٍ أَنْ تَصَدَّعَا
فَلَيْسَتْ عَشِيَّاتُ الْحِمَى بِرَوَاجِعٍ ........ إِلَيْكَ وَلَكِنْ خَلِّ عَيْنَيْكَ تَدْمَعَـا
وهي قصيدة تعدُّ من أجملِ قصائد العرب في الغَزَل، وقد وصفها بعضهم - وهو محمد بن سليمان الأزدعي - بقوله: لو حلف حالفٌ أنَّ أحسنَ أبياتٍ قيلت في الغَزَل في الجاهلية والإسلام هي قصيدة الصمة هذه، لما حنث.
بَقِيَ أن نذكر أنَّ شاعرنا مات بطبرستان، وقد كان خرج في غزو الدَّيلم، وهناك ريَّا أخرى ذكرها بخير زوجُها، وكان شاعرًا مجيدًا استوقفتني له قصيدتان جميلتان وخلَّد ذكرَه وذكرَها، والقصيدة الثانية نصائحُ لابنه، وسأذكر قصة القصيدتين تباعًا.